·
لقد أصبح حَمَلة العلمانية الوافدة في
بلاد الشرق بعد مائة عام من وفودهم تياراً واسعاً منفذاً غالباً على نخبة
الأمة وخاصتها في الميادين المختلفة, من فكرية واجتماعية وسياسية
واقتصادية ، وكان يتقاسم هذا التيار الواسع في الجملة اتجاهان :
أ- الاتجاه اليساري الراديكالي
الثوري، ويمثله - في الجملة - أحزاب وحركات وثورات ابتليت بها المنطقة
ردحاً من الزمن ، فشتت شمل الأمة ومزقت صفوفها ، وجرت عليها الهزائم
والدمار والفقر وكل بلاء ، وكانت وجهة هؤلاء الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه،
سواء كانوا شيوعيين ، أو قوميين عنصريين .
ب- الاتجاه الليبرالي ذي الوجهة
الغربية لأمريكا ومن دار في فلكها من دول الغرب ، وهؤلاء يمثلهم أحزاب
وشخصيات قد جنوا على الأمة بالإباحية والتحليل والتفسخ والسقوط الأخلاقي
والعداء لدين الأمة وتاريخها .
·وللاتجاهين ملامح متميزة أهمها :
1- مواجهة التراث الإسلامي ، إما
برفضه بالكلية واعتباره من مخلفات عصور الظلام والانحطاط والتخلف - كما
عند غلاة العلمانية - ، أو بإعادة قراءته قراءة عصرية - كما يزعمون -
لتوظيفه توظيفاً علمانياً من خلال تأويله على خلاف ما يقتضيه سياقه
التاريخي من قواعد شرعية، ولغة عربية، و أعراف اجتماعية. ولم ينجو من
غاراتهم تلك حتى القرآن و السنة ، إمّا بدعوى بشرية الوحي ، أو بدعوى أنه
نزل لجيل خاص أو لأمة خاصة ، أو بدعوى أنها مبادئ أخلاقية عامة ، أو
مواعظ ورقائق روحية لا شأن لها بتنظيم الحياة ، ولا ببيان العلم وحقائقه ،
ولعل من الأمثلة الصارخة للرافضين للتراث ، والمتجاوزين له "أدونيس" و
"محمود درويش" و "البياتي" و "جابر عصفور" ومن لفّ لفهم وشايعهم وهم كثر
لا كثرهم الله .
أما الذين يسعون لإعادة قراءته
وتأويله وتوظيفه فمن أشهرهم "حسن حنفي" و "محمد أركون"و "محمد عابد
الجابري" و "حسين أمين" ومن على شاكلتهم ، ولم ينجُ من أذاهم شيء من هذا
التراث في جميع جوانبه .
2- اتهام التاريخ الإسلامي بأنه تاريخ
دموي استعماري عنصري غير حضاري ، وتفسيره تفسيراً مادياً ، بإسقاط نظريات
تفسير التاريخ الغريبة العلمانية على أحداثه، وقراءته قراءة انتقائية غير
نزيهة ولا موضوعية، لتدعيم الرؤى والأفكار السوداء المسبقة حيال هذا
التاريخ ، وتجاهل ما فيه من صفحات مضيئة مشرقة ، والخلط المتعمد بين
الممارسة البشرية والنهج الإسلامي الرباني ، ومحاولة إبراز الحركات
الباطنية والأحداث الشاذة النشاز وتضخيمها، والإشادة بها ، والثناء عليها ،
على اعتبار أنها حركات التحرر والتقدم والمساواة والثورة على الظلم مثل
"ثورة الزنج" و "ثورة القرامطة" ومثل ذلك الحركات الفكرية الشاذة عن
الإسلام الحق ، وتكريس فكرة مفادها أنها من الإسلام بل هي الإسلام مثل
القول بوحدة الوجود، والاعتزال وما شابه ذلك من أمور تؤدى في نهاية الأمر
إلى تشويه الصور المضيئة للتاريخ الإسلامي لدى ناشئة الأمة، وأجياله
المتعاقبة .
3- السعي الدؤوب لإزالة أو زعزعة
مصادر المعرفة والعلم الراسخة في وجدان المسلم ، والمسيرة المؤطرة للفكر
والفهم الإسلامي في تاريخه كله ، من خلال استبعاد الوحي كمصدر للمعرفة
والعلم ، أو تهميشه - على الأقل - وجعله تابعاً لغيره من المصادر كالعقل
والحس ، وما هذا إلا أثر من آثار الإنكار العلماني للغيب ، والسخرية من
الإيمان بالغيب ، واعتبارها - في أحسن الأحوال - جزء من الأساطير
والخرافات والحكايات الشعبية ، والترويج لما يسمي بالعقلانية والواقعية
والإنسانية ، وجعل ذلك هو البديل الموازي للإيمان في مفهومه الشرعي الأصيل
، وكسر الحواجز النفسية بين الإيمان و الكفر ، ليعيش الجميع تحت مظلة
العلمانية في عصر العولمة . وفي كتابات " محمد عابد الجابري " و" حسن حنفي
" و" حسين مروة " و" العروي " وأمثالهم الأدلة على هذا الأمر .
4- خلخلة القيم الخلقية الراسخة في
المجتمع الإسلامي ، والمسيرة للعلاقات الاجتماعية القائمة على معاني
الأخوة والإيثار والطهر والعفاف وحفظ العهود وطلب الأجر وأحاسيس الجسد
الواحد ، واستبدال ذلك بقيم الصراع و الاستغلال والنفع وأحاسيس قانون
الغاب والافتراس والتحلل والإباحية , من خلال الدراسات الاجتماعية
والنفسية ، والأعمال الأدبية والسينمائية والتلفزيونية ، مما هز المجتمع
الشرقي من أساسه ، ونشر فيه من الجرائم والصراع ما لم يعهده أو يعرفه في
تاريخه ، ولعل رواية "وليمة عشاء لأعشاب البحر" - السيئة الذكر - من أحدث
الأمثلة على ذلك، والقائمة الطويلة من إنتاج"محمد شكري" و "الطاهر بن
جلون" و "الطاهر طار" و "تركي الحمد" وغيرهم الكثير تتزاحم لتؤدي دورها في
هدم الأساس الخلقي الذي قام عليه المجتمع، واستبداله بأسس أخرى .
5- رفع مصطلح الحداثة كلافتة فلسفية
اصطلاحية بديلة لشعار التوحيد ، والحداثة كمصطلح فكري ذي دلالات محددة
تقوم على مادية الحياة ، وهدم القيم والثوابت، ونشر الانحلال والإباحية ،
وأنسنة الإله وتلويث المقدسات ، وجعل ذلك إطاراً فكرياً للأعمال الأدبية ،
والدراسات الاجتماعية ، مما أوقع الأمة في أسوأ صور التخريب الفكري
الثقافي .
6- استبعاد مقولة الغزو الفكري من
ميادين الفكر والثقافة ، واستبدالها بمقولة حوار الثقافات ، مع أن الواقع
يؤكد أن الغزو الفكري حقيقة تاريخية قائمة لا يمكن إنكارها كإحدى مظاهر
سنة التدافع التي فطر الله عليها الحياة ، وأن ذلك لا يمنع الحوار ، لكنها
سياسة التخدير والخداع والتضليل التي يتبعها التيار العلماني ، ليسهل تحت
ستارها ترويج مبادئ الفكر العلماني ، بعد أن تفقد الأمة مناعتها وينام
حراس ثغورها ، وتتسلل في أجزائها جراثيم وفيروسات الغزو العلماني القاتل .
7- وصم الإسلام بالأصولية والتطرف
وممارسة الإرهاب الفكري ، عبر غوغائية إعلامية غير شريفة ولا أخلاقية ،
لتخويف الناس من الإلتزام بالإسلام ، والاستماع لدعاته ، وعلى الرغم من
وقوع الأخطاء - وأحياناً الفظيعة - من بعض المنتمين أو المدعين إلى
الإسلام ، إلا أنها نقطة في بحر التطرف والإرهاب العلماني الذي يمارس على
شعوب بأكملها ، وعبر عقود من السنين ، لكنه عدم المصداقية والكيل بمكيالين
، والتعامي عن الأصولية والنصرانية واليهودية الموغلة في الظلامية
والعنصرية والتخلف .
8- تمييع قضية الحل والحرمة في
المعاملات والأخلاق ، والفكر والسياسة ، وإحلال مفهوم اللذة والمنفعة
والربح المادي محلها ، واستخدام هذه المفاهيم في تحليل المواقف والأحداث ،
ودراسة المشاريع والبرامج ، أي فك الارتباط بين الدنيا والآخرة في وجدان
وفكر وعقل الإنسان ، ومن هنا ترى التخبط الواضح في كثير من جوانب الحياة
الذي يعجب له من نور الله قلبه بالإيمان ، ولكن أكثرهم لا يعلمون .
9- دق طبول العولمة واعتبارها القدر
المحتوم الذي لا مفرمنه ولا خلاص إلا به ، دون التمييز بين المقبول
والمرفوض على مقتضى المعايير الشرعية ، بل إنهم لَيصرخون بأن أي شئ في
حياتنا يجب أن يكون محل التساؤل دون التفريق بين الثوابت والمتغيرات مما
يؤدي إلى تحويل بلاد الشرق إلى سوق استهلاكية لمنتجات الحضارة الغربية ،
والتوسل لذلك بذرائعيه نفعية محضة لا يسيرها غير أهواء الدنيا وشهواتها .
10- الاستهزاء والسخرية والتشكيك في
وجه أي محاولة لأسلمة بعض جوانب الحياة المختلفة المعاصرة في الاقتصاد
والإعلام والقوانين ، ولعل الهجوم المستمر على المملكة العربية السعودية
بسبب احتكامها للشريعة في الحدود والجنايات من هذا المنطلق ، وإن برّروا
هجومهم وحقدهم تحت دعاوى حقوق الإنسان وحرياته ، ونسوا أو تناسوا الشعوب
التي تسحق وتدمر وتقتل وتغصب بعشرات الآلاف ، دون أن نسمع صوتاً واحداً من
هذه الأصوات النشاز يبكي لها ويدافع عنها ، لا لشيء إلا أن الجهات التي
تقوم بانتهاك تلك الحقوق ، وتدمير تلك الشعوب أنظمة علمانية تدور في فلك
المصالح الغربية .
11- الترويج للمظاهر الاجتماعية
الغربية ، وبخاصة في الفن والرياضة وشركات الطيران والأزياء والعطور
والحفلات الرسمية وقضية المرأة ، ولكن كانت هذه شكليات ومظاهر لكنها تعبر
عن قيم خلقية ، ومنطلقات عقائدية ، وفلسفة خاصة للحياة ، من هنا كان
الاهتمام العلماني المبالغ فيه بموضة المرأة ، والسعي لنزع حجابها ،
وإخراجها للحياة العامة ، وتعطيل دورها الذي لا يمكن أن يقوم به غيرها ،
في تربية الأسرة ورعاية الأطفال ، وهكذا العلمانيون يفلسفون الحياة . يعطل
مئات الآلاف من الرجال عن العمل لتعمل المرأة ، ويستقدم مئات الآلاف من
العاملات في المنازل لتسد مكان المرأة في رعاية الأطفال ، والقيام بشؤون
المنزل ، ولئن كانت بعض الأعمال النسائية يجب أن تناط بالمرأة ، فما
المبرر لمزاحمتها للرجل في كل موقع ؟!
12- الاهتمام الشديد والترويج الدائم
للنظريات العلمانية الغربية في الاجتماع والأدب ، وتقديم أصحابها في وسائل
الإعلام ، بل وفي الكليات والجامعات على أنهم رواد العلم ، وأساطين الفكر
وعظماء الأدب ، وما أسماء "دارون" و "فرويد" و "دوركايم" ولا "الأنسنية" و
"البنيوية" و "السريالية" وغير هذا الكثير مما لا يجهله المهتم بهذا
الشأن ، وحتى أن بعض هذا قد يتجاوزه العلمانيون في الغرب ، ولكن صداه ما
زال يتردد في عالم الأتباع في الشرق ، وكأننا نحتاج لعقود من الزمن ليفقه
أبناؤنا عن أساتذتهم هذه المراجعات .